تدرج التحول في مناهج التخطيط لبلدان العالم نحو منهج التخطيط التنموي البيئي

27/12/2018
حرر بواسطة ادارة موقع الاستدامة
1145زائر شاهد هذا الموضوع على الشبكة

تدرج التحول في مناهج التخطيط لبلدان العالم نحو منهج التخطيط التنموي البيئي ا.د محمد علي الانباري/كلية الهندسة/جامعة بابل ان مفهوم التنمية هو مفهوم متعدد الأبعاد يشمل النواحي الأقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية للمجتمع الانساني ، و ان من اهم اوجه القصور في التخطيط التقليدي للتنمية هو ضعف اهتمامه بالجانب البيئي ، لذلك فأن احد اهم التحديات الكبيرة التي تواجه هذا المجتمع هو تخطيط التنمية بحيث تسد حاجات الأنسان الأساسية بطريقة ملائمة للبيئة . فمن خلال التنمية يتفاعل الانسان مع البيئة الطبيعية و يؤثر فيها ايجابا او سلبا ، و في نفس الوقت تشكل مصادر البيئة الطبيعية من ماء و تربة و حياة نباتية و حيوانية رأس المال الطبيعي الذي تتوقف علية التنمية . و ان الأدارة الجيدة للبيئة هي ببساطة كيفية استخدام مصادر الطبيعة لسد حاجات الانسان دون تدمير للنظم البيئية التي تتوقف عليها التنمية . و في بداية السبعينات عقدت عدة مؤتمرات ( مثل مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة و الانسان الذي عقد في ستوكهولم عام 1972 ، و ندوة كوكويوك عن انماط استخدام المصادر و البيئة و ستراتيجيات التنمية التي عقدت في المكسيك عام 1974 ، ثم مؤتمر ريودي جانيرو للبيئة و التنمية في البرازيل عام 1992 ، و ثم مؤتمر جوهانزبيرغ للتنمية المستدامة في جنوب افريقياعام 2002 وغيرها ) ساهمت كلها في توضيح العلاقة بين البيئة و التنمية و في التبديد التدريجي للمفهوم الخاطئ بأنهما متنافرتان ، و لقد كونت هذه الأفكار الأساس لنقاش واسع في منتديات اقليمية و دولية متعددة ، و لقد استخدمت تعبيرات مثل " الأنماط البديلة للتنمية " و " التنمية المتوازنة بيئيا " و " التنمية الملائمة للبيئة " و " التنمية القابلة للأستمرار " و " التنمية المضطردة " و " التنمية المستدامة " و غيرها للتعبير اساسا عن رسالة واحدة هي ان البيئة و التنمية مرتبطتان ارتباطا وثيقا ، و في الحقيقة يدعم كل منهما الأخر ، و لذلك فكما نخطط للتنمية ينبغي ان نخطط للبيئة بشكل متزامن و متوازن . ازاء ذلك ، فأن التبدل في النظرة للبيئة و التنمية تطلب تحديث مناهج التخطيط التنموي ( فلسفة و اليات) بأتجاه استيعاب الاعتبارات البيئية جنبا الى جنب الاعتبارات التنموية قطاعيا و مكانيا و بما يحقق الموازنة بين متطلبات التنمية و متطلبات حماية و تحسين البيئة. ولقد اشارت معظم الادبيات التخطيطية لبلدان العالم وخاصة النامية منها الى ان هناك تدرج في اهتمامات التخطيط التنموي أبتدأت بالمنهج الاقتصادي للتخطيط التنموي وستراتيجياته ( النمو المتوازن والنمو غير المتوازن ) . ان منهج التخطيط التنموي الاقتصادي ( Economic Development Planning Approach ) ادى الى ظهور تمركزات ضخمة من التنمية في مناطق محدودة من البلد تحيط بها مناطق شاسعة من الفقر والتخلف ( اي الثنائية المكانية ) . ولذلك انطلق المنهج المكاني للتخطيط التنموي ليمثل الوسيلة الاساسية لتحقيق قدر من التوازن في توزيع الفعاليات والانشطة التنموية ( الصناعة ، الزراعة ، الاسكان ، النقل ...الخ ) بين مناطق البلد ، وبالتالي تقليص التباين في مستويات التنمية سواء في الخدمات العامة او قوى الانتاج او السكان او الدخول الفردية . لذلك فان منهج التخطيط التنموي المكاني ( Spatial Development Planning Approach ) في رسمه السياسات والخطط تعامل مع الجانب الاجتماعي اضافة للجانب الاقتصادي ، وان المكان بالنسبة له يتمثل بالموقع الجغرافي (Geographical Location ) للفعاليات والانشطة المختلفة . الا ان التوسع الحجمي والنوعي في هذه الفعاليات والانشطة لاسباب متعددة كزيادة حجم السكان و تغيير نمط الاستهلاك و الرغبة في زيادة الارباح الاقتصادية و تغيير استعمالات الارض ادى الى افراز اثار عديدة على مكونات البيئة الطبيعية في المنطقة التي تتواجد فيها هذه الفعاليات والانشطة أذ : - استنزفت الموارد الطبيعية ( او بعضها ) خاصة غير المتجددة منها . - تلوثت المكونات الاساسية للبيئة الطبيعية ( الهواء ، المياه ، الارض ) و لقد كانت الطبيعة قادرة على امتصاص اغلب هذه الاثار من خلال آليات تكيفية طبيعية ، ولكن في القرن الاخير ، ونتيجة للتطور التقني والزيادة في عدد السكان بدأت الطبيعة تظهر اعراضاً تنبئ بفقدان ذلك التوافق . وقد نتج عن ذلك في احيان كثيرة تدهور في نوعية البيئة (Quality of Environment ) التي انعكست اثارها في تدهور نوعية الحياة(Quality of Life) فالتدهور الحاصل له طابع اخلاقي وصحي بالنسبة للانسان ,و برزت هذه المشكلة بشكل اساسي في البلدان المتطورة التي قطعت اشواطاً بعيدة في مختلف المجالات ، اما في البلدان النامية ( الاقل تطوراً ) فبدأت هذه المشكلة تأخذ دورها المؤثر في البيئة الطبيعية نتيجة للخطط التنموية التي وضعتها هذه البلدان لتقليص الفجوة التنموية بينها وبين البلدان المتطورة ، ومن هنا كان التعارض بين اهداف تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي واهداف حماية وتحسين البيئة ، لذلك ظهرت اصوات عديدة ( كانت بدايتها في مؤتمر الامم المتحدة حول البيئة الانسانية في ستوكهولم عام 1972 ) تدعو الى ايجاد نوع من التنسيق بين اهداف التنمية واهداف حماية وتحسين البيئة . ومن هنا ظهرالمنهج البيئي للتخطيط التنموي وهو الوسيلة المهمة لتحقيق ما يسمى في الادبيات الحديثة بالتنمية المستدامة (Sustainable Development ) ( التي ركز عليها مؤتمر الامم المتحدة في ريودي جانيرو في البرازيل عام 1992 والذي سمي بمؤتمر قمة الارض والذي جاء تأكيداً لمؤتمر ستوكهولم ) , ان منهج التخطيط التنموي البيئي (Environmental Development Planning Approach ) يتعامل مع الجوانب البيئية فضلا عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في رسم السياسات والخطط ، وان المكان بالنسبة له اكثر شمولية من مفهومه السابق ، فهو فضلا عن كونه يمثل الموقع الجغرافي للفعاليات والانشطة ، فهو يمثل الوسط (Media) الذي تحدث فيه هذه الفعاليات والانشطة ومختلف علاقاتها المتبادلة ، مما يعرضه كوسط للاثار المختلفة الناتجه من استخدامه كاستخدام الارض و المياه و الهواء و بالتالي تأثر خصائصه النوعية والتي بدورها ستؤثر على نوعية الحياة ومخاطرها في اي منطقة . ان التبدل الحاصل في المناهج التخطيطية لاغلب بلدان العالم في المرحلة الاخيرة من القرن العشرين تمثل بادخال الاعتبارات البيئية في هذه المناهج من خلال اعتماد مبدأ التوقي (Precautionary Principle ) كأساس للتعامل مع الاشكالية البيئية وذلك كون احد اسباب التخطيط هو لتجنب الاخطار ، اي التوقي من الاخطار ، فضلا عن الاسباب الاخرى ( حل المشاكل و تقليل التناقضات ...الخ ) ، حيث تصبح السياسات و الخطط التنموية اكثر توقيا و حفاظا على البيئة. ان فهم المنهج البيئي للتخطيط التنموي يرتكز على ثلاثة مفاهيم رئيسية : المفهوم الأول : أن التفكير يكون بشكل شمولي و التطبيق محلي . (Thinking Globally and Act Locally ) المفهوم الثاني : في الأنظمة البيئية كل شئ مرتبط بكل شئ . (Everything is Connected to Everything) المفهوم الثالث : أن الأنظمة البيئية الطبيعية لها امكانات (سعات) محددة لتقبل المتغيرات التي تطرأ عليها دون ان يحدث التدهور .فأذا تم تجاوز هذه الأمكانات فأن أحتمالات التدهور تصبح واردة بأثارها السلبية على الأنسان حاليا و مستقبلا. . ان هذا المنهج ينطبق على الفعاليات و الانشطة التنموية المختلفة ، فهو ينطبق على الصناعة و الزراعة و الاسكان والنقل ، كما انه ينطبق على المناطق الحضرية كما ينطبق على المناطق الريفية ، هو يأخذ بالأعتبار مدخلات التخطيط الأيكولوجية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفنية .. فهو جوهر التنمية البيئية . من هنا ندرك ان مشكلة التطور الاجتماعي والاقتصادي في البلدان النامية هي عملية معقدة للغاية كونها اصبحت مرهونه بحماية البيئة الطبيعية وتحسينها توقياً من المشاكل التي حدثت في البلدان الاخرى ( راجع الجدول رقم (1) ) .ان هذه البلدان ( النامية ) لازالت تمتلك : - المرونة الكبيرة (Greater Flexibility ) في الاستجابة لمفاهيم البيئة الطبيعية . - الفرصة الكبيرة (Greater Opportunity ) لأنجاز الفعل المؤثر لحماية أنظمتها الطبيعية بكلف قليلة . ان عملية التحول نحو منهج التخطيط التنموي البيئي تختلف من بلد الى اخر طبقاً للظروف السياسية والاقتصاديه والاجتماعية ، وانعكاس ذلك على الاولويات في السياسات والخطط التنموية . ولهذا الاختلاف ، هناك بلداناً اتخذت خطوات في هذا المجال في حين هناك بلدان لازالت في بداية الطريق . " ان الانظمة الحالية لصنع القرار التخطيطي لعدد من البلدان النامية تحاول ان تفصل بين الجوانب البيئة والاجتماعية - الاقتصادية ضمن المستويات المختلفة للسياسة والتخطيط والادارة . ان هذا يؤثر على فعاليات وانشطة الدولة والهيئات والافراد وله تضمينات مهمة في كفاءة واستمرارية التنمية لذلك فان تعديل ( Adjustment ) او حتى اعادة تشكيل عملية صنع القرار بشكل اساسي ( Fundamental Reshaping Decision Making ) وفقاً للظروف الخاصة بالبلد هو ما ينبغي فعله اذا اريد وضع البيئة والتنمية في مركز القرار التخطيطي وبشكل مؤثر وبما يؤدي الى انجاز التكامل التام ( Full Integration ) لهذه العوامل في كل المستويات التخطيطية " (2) . واستناداً لمؤتمر ريو ( قمة الارض ) وما نتج عنه من جدول اعمال القرن الواحد والعشرين (Agenda 21 ) تم وضع برنامج لتكامل البيئة والتنمية في صنع القرار ، حيث تضمن هذا البرنامج مجموعة من الانشطة المتعلقة بخطوات تكامل البيئة والتنمية في مستويات السياسة ، التخطيط والادارة ، وان هذه الانشطة ينبغي انجازها من قبل الحكومات وحسب خصوصية كل بلد بالتنسيق مع المنظمات العالمية ذات العلاقة كبرنامج الامم المتحدة للبيئة (UNEP ) وبرنامج الامم المتحدة للتنمية (UNDP ) وغيرها ,وتتضمن هذه الانشطة ما يأتي : أ‌- تحسين عملية صنع القرار: ينبغي على الحكومات ان تحسن عمليات صنع القرار لانجاز التقدم في تكامل الاشكاليات الاقتصادية ، الاجتماعية والبيئية ضمن اطار التنمية ، بحيث يجعلها كفوءة اقتصادياً ، عادله ومسؤولة اجتماعياً ، ورفيقه بالبيئة. ان على البلدان ان تطور اولوياتها الخاصة طبقاً لسياساتها وخططها وبرامجها الوطنيه من خلال الانشطة الاتية : • ضمان تكامل الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في صنع القرار بكل المستويات وفي كل الوزارات ( القطاعات ). • اختيار اطار عمل سياسي مشكل وطنياً يعكس المنظور البعيد المدى ومنهج تشابك القطاعات كأساس للقرارات . • انشاء الطرق والوسائل المقره وطنياً لتأكيد تنسيق السياسات والخطط ( اقتصاديه و اجتماعيه و بيئيه ) وادوات السياسة : متضمنة الاجراءات الرسمية والميزانية . • مراقبة وتقييم عملية التنمية بشكل منظم وانشاء عملية مراجعة دورية لحالة تنمية الموارد البشرية ، الواقع الاقتصادي والاجتماعي وحالة البيئة والموارد الطبيعية . • ضمان الشفافية (Transparency ) والمحاسبيه (Accountability ) لتطبيقات البيئة في السياسات والخطط الاقتصادية القطاعية . • ضمان سهولة وصول المعلومات لشرائح المجتمع وتسهيل استلام وجهات نظر هذه الشرائح والسماح بمشاركة كفوءة . ب – تحسين انظمة التخطيط والادارة . لاسناد منهج متكامل لصنع القرار ، فانه يتطلب تحسين أنظمة البيانات وطرق التحليل المستخدمة لاسناد عمليات صنع القرار. لذلك فانه ينبغي على الحكومات وبالتنسيق مع المنظمات العالمية ان تقيم حالة انظمتها التخطيطية والادارية حيثما كان مناسبا وتحديث وتعزيز الخطوات لتسهيل تكامل الاعتبارات الاجتماعية ، الاقتصادية ، والاشكاليات البيئية حيثما كان ظروريا . ان على البلدان ان تطور اولوياتها طبقاً لسياساتها وخططها وبرامجها الوطنية لانجاز الانشطة الاتية : • تحسين استخدام البيانات والمعلومات في كل مراحل التخطيط والاداره ، بحيث يكون الاستخدام منظما ومتزامنا للبيانات الاجتماعية و الاقتصادية والبيئية . • اختيار خطوات تحليلية لتقدير متزامن لاثار القرارات تتضمن الاثار ضمن وبين المجالات الاقتصادية ، الاجتماعية والبيئية . هذه الخطوات ينبغي ان توسع الى ما قبل مستوى المشروع اي الى مستوى السياسات والخطط والبرامج . • اختيار مناهج تخطيطية متكاملة ومرنه تسمح باعتبارات تعدد الاهداف وتمكن من تلافي التغيرات المطلوبة ، ان هذه المناهج تسهل تكامل مكونات البيئة مثل الهواء ، المياه ، الارض ، والموارد الطبيعية الاخرى كمنهج المنطقة المتكاملة (Integrative Area Approach ) ومنهج التخطيط الايكولوجي لتشكيل الارض (Ecological Landscape Planning Approach) . • اختيار اطر ستراتيجية تسمح بتكامل الاهداف التنموية والبيئية كأنظمة المعيشة المستدامة ( التنمية الحضرية ) والتنمية الريفية وغيرها . • انشاء اطار عام لاستعمالات الارض والتخطيط العمراني تطور ضمنه خطط قطاعية متخصصه وتفصيلية ( كالمناطق المحمية و الزراعية و الغابات و المستقرات البشرية و التنمية الريفية ). • اختيار انظمة ادارة متكاملة بشكل خاص لادارة الموارد الطبيعية . • اختيار مناهج متكاملة للتنمية المستدامة بين البلدان المتجاورة تتضمن مناطق الانتقال عبر الحدود (Transboundary Areas) . • استخدام ادوات السياسة (Policy Instruments) ( التشريعية و التنظيمية والاقتصادية كأدوات للتخطيط والادارة . • تحويل المسؤوليات التخطيطية الادارية الى المستويات الدنيا . • انشاء الخطوات لتضمين المجتمعات المحلية في التخطيط الاحتمالي (Contingency Planning) للحوادث البيئية والصناعية وادامة تبادل المعلومات بشكل مفتوح عن المخاطر المحلية . حـ – البيانات والمعلومات : يمكن ان تطور البلدان انظمة لمراقبة وتقييم التقدم الحاصل نحو أنجاز التنمية المستدامة من خلال اختيار مؤشرات تقيس التغيرات عبر الابعاد الاقتصادية و الاجتماعية والبيئية . د – اختيار ستراتيجية وطنية للتنمية المستدامة : ينبغي على الحكومات وبالتنسيق مع المنظمات العالمية حيثما كان مناسب ، ان تختار ستراتيجية وطنية للتنمية المستدامة مستندة على القرارات المتخذه في مؤتمر ريو وبشكل خاص جدول اعمال القرن الواحد والعشرين . ان هذه الستراتيجية تبني وتنسق بين مختلف السياسات والخطط القطاعية ، الاقتصادية ، الاجتماعية والبيئية العاملة في البلد . ان الخبره الناتجة من العمل التخطيطي الحالي كالتقارير الوطنيه المقدمة للمؤتمر ستراتيجات الحفاظ الوطنية ، والخطط البيئية ، ينبغي ان تستخدم بشكل كامل وتنسق ضمن ستراتيجية للتنمية المستدامة المشتقة وطنيا ، (Country- driven Sustainable Development Strategy ) ان اهدافها ينبغي ان تكون لضمان المسؤولية الاجتماعية للتنمية الاقتصادية في نفس الوقت حماية الموارد البيئية للاجيال القادمة ان هذه الستراتيجيه ينبغي ان تطور من خلال اوسع مشاركة ممكنه ، وان تستند على التقييم للحالة والمبادرات الراهنة .